نبوءة "مولييراس" بخصوص تعريب المغرب في القرن العشرين .. والمؤامرة الكبرى لطمس الهوية الامازيغية

بقلم : محمد بودهان 

في الجزء الثاني من كتابه "المغرب المجهول"، والذي خصصه "أوغوست مولييراس" Auguste Mouliéras (1855-1931)، لـ"استكشاف جبالة"، والصادر في 1899، يتحدث الكاتب، في نص قصير، عن العملية المتواصلة للتعرّب الذاتي لقبائل جبالة المغربية، مبديا، حول زحف ظاهرة هذا التعريب الطوعي، ملاحظات تنمّ عن بعد النظر لدى الكاتب، وإدراكه الصائب لآليات اشتغال التعريب، وفهمه الثاقب والعميق للظاهرة، وتنبّئه بتطوّرها المستقبلي.


وقد تأكد وتحقق بالفعل هذا التنبؤ. وهو ما يضفي عليه طابع التنبّئ العلمي، مما يجعله ذا أهمية يستحق معها ذلك النص، الذي يتضمن ذلك التنبؤ، الاطلاع عليه والوقوف عنده.

لنقرأ أولا النص، ثم نعلّق عليه: 

«في مستقبل ربما قريب، ستتبنّى، وبشكل لا رجعة فيه، قبائل جبالة المتاخمة للريف، التي تعرّب نصفها منذ مدة، لغة الرسول، وسترفض حتى مجرد الحديث عن أصولها الأمازيغية. وسيثبت لها نسّابون (généalogistes) ماهرون، وبشكل واضح لا يقبل الجدال، بأنها تنحدر من فاتح مشهور من الحجاز أو العراق. ولا شك أن هؤلاء المستعربين الجدد، سيعملون بدورهم على تعريب الريف، وإقناع أبنائه بحقارة لغتهم وعاداتهم وأجدادهم.

هذا التعريب يمارس فعله بعمق وبطء كما يفعل النمل الأبيض (C'est un travail de termite)، لكنه يحقق الهدف باستمراريته وسيره إلى الأمام بشكل لا يقاوَم. لنفترض الآن إلحاق المغرب بإحدى القوى الأوروبية. آنذاك سينطلق تعريب جميع الأمازيغ بخطى عملاقة، وستكون الدولة المحتلة هي أول من سيشجّع على هذا التحوّل، كما فعلنا نحن أنفسنا في الجزائر، وفي جهل تام منا لإتنوغرافيا وتاريخ الدول الأمازيغية». (Aguste Mouliéras, “Le Maroc inconnu”, 2ème partie, "Exploration du Djebala", édition 1899, page 306).
ماذا نلاحظ وماذا نستنتج؟

1 ـ وعي الكاتب أن قبائل "جبالة"، وهو ما ينطبق على المغرب كله، هي في الأصل أمازيغية، وليست عربية، لكن جزءا منها تعرّب. ولا زال التعريب، الاختياري وليس الإجباري، يزحف على مزيد من هذه القبائل. فسكان هذه المناطق الشمالية ـ وهو ما يصدق على كل سكان المغرب كما قلت ـ هم إذن أمازيغيون في هويتهم وانتمائهم وحتى عرقهم، مثل جيرانهم الريفيين. كل ما هنالك أنهم هجروا لغتهم الأمازيغية وتحوّلوا إلى متحدثين بالدارجة، كما حصل لجزء هام من المغاربة.

2 ـ سبب هذا التحوّل اللغوي، من الأمازيغية إلى الدارجة، ديني محض، يرجع إلى رغبة الأمازيغيين في استعمال لغة الرسول (صلعم)، وتبنّي، عبر استعمالهم لهذه اللغة، نفس انتمائه العربي، والقطع مع انتمائهم الأمازيغي الأصلي، غير "الرسولي". ولأن هذه اللغة، أي لغة الرسول (صلعم) التي هي العربية الفصحى، ليست مستعملة في التداول اليومي، فقد كان من نتائج ذلك ـ ولو أن "مولييراس" لم يشرح هذه النتيجة ـ أن أبدع الأمازيغ عربية خاصة بهم، وهي الدارجة، اعتقادا منهم، ولاستعمالها معجما عربيا، أنها لغة عربية، أي أنها لغة الرسول (صلعم)، التي كانت رغبتهم في التحدث بها وراء خلقهم للدارجة ونبذهم لأمازيغيتهم، باعتبارها ليست لغة "رسولية". وهذا ما سبق أن شرحناه، وبطريقة الخشيبات لثقيلي الفهم، في مقالات سابقة بينا فيها الانتماء الأمازيغي، الجغرافي والبشري والتركيبي اللسني، للغة الدارجة.

3 ـ إلا أن هذا التحوّل اللغوي، من الأمازيغية إلى الدارجة، لم يكن كافيا ليجعل من المتحدثين بالدارجة عربي الانتماء مثل الرسول (صلعم)، الذي كانت الرغبة في استعمال لغته هي الدافع الديني الأول لتخلي العديد من الأمازيغيين عن أمازيغيتهم وإبداعهم لعربية خاصة بهم، وهي الدارجة. ولهذا سيلجؤون، حتى يكونوا عربي الانتماء مثل الرسول (صلعم)، إلى انتحال النسب العربي الذي سيؤكده «نسّابون ماهرون»، كما كتب "مولييراس"، «يثبتون» لهم بأنهم ينحدرون «من فاتح مشهور من الحجاز أو العراق».

فالرغبة الأولى للأمازيغيين، لأسباب دينية، في استعمال لغة الرسول (صلعم)، وما نتج عن ذلك من ظهور رغبة ثانية لديهم في تبنّي انتمائه العربي، تفسّر ظاهرة التحوّل الجنسي لدى الأمازيغ من جنسهم الأمازيغي الأصلي إلى جنس عربي منتحل ومزوّر. هكذا تشكّلت وانتشرت القناعة أن المغرب يضم، ضمن مجموع سكانه، أمازيغ أصليين وعربا وافدين. مع أن الجميع أمازيغيون، لأن المتحدثين بالدارجة والمنتحلين للنسب العربي، هم جميعا أبناء هذه الأرض الأمازيغية الشمال إفريقية، وليسوا وافدين عليها من خارجها.

4 ـ هؤلاء الأمازيغيون، المتحوّلون من جنسهم الأمازيغي إلى الجنس العربي، «سيعملون بدورهم على تعريب» الأمازيغ الآخرين وإقناعهم «بحقارة لغتهم وعاداتهم وأجدادهم»، كما كتب "مولييراس". وهذا صحيح جدا نلاحظه من خلال مواقف العديد من المغاربة المعرَّبين، أي المتحوّلين جنسيا، الذين يناوئون الأمازيغية بشكل مرَضي، ويحتقرونها متبجحين أنهم ليسوا أمازيغيين. وهي مواقف أمازيغوفوبية لا نجد مثيلا لها عند العرب الحقيقيين ببلدان الخليج، الذين يكنّون كل الاحترام للأمازيغ وللغتهم وثقافتهم. وهو ما يؤكد أن المغاربة المعرَّبين ليسوا عربا حقيقيين، بل فقط متحولين جنسيا، كما أشرت، مما يفسر كراهيتهم لجنسهم الأصلي.

هكذا يصبح كل متحوّل جديد من جنسه الأمازيغي إلى الجنس العربي، أداة لتحويل مزيد من الأمازيغيين من جنسهم الأمازيغي إلى الجنس العربي المنتحَل، مع مقدار غير قليل من الكراهية والاحتقار لجنسه الأمازيغي الأصلي. بهذه العملية المحوّلة للجنس، التي شبّهها الكاتب بعملية اشتغال النمل الأبيض، ينتشر التعريب ويتوسع، وتتراجع الأمازيغية ويتناقص المتحدثون بها، ويكثر المناوئون لها والطاعنون فيها. 

5 ـ ورغم هذا الانتشار المتنامي والتقدم المتواصل للتعريب، أي لتحوّل الأمازيغ من جنسهم الأمازيغي إلى الجنس العربي، إلا أن هذا التعريب ظل دائما اختياريا وفرديا، ولم يكن مفروضا ويمسّ كل المغرب وكل المغاربة، وكل الدول التي حكمت المغرب قبل 1912. ولهذا فكل الكتّاب والمؤرخين، الذين تحدثوا عن المغرب، كانوا يعتبرونه جزءا من بلاد البربر أو بلاد أفريقية، ولم يستعملوا أبدا عبارة المغرب العربي أو الدولة العربية للمغرب كوصف لهذا البلد. 

لكن مع الاستعمار "الحمائي" الفرنسي للمغرب في 1912، سيصبح التعريب إجباريا وجماعيا ومتسارعا، بعد أن كان اختياريا وفرديا وبطيئا. وهنا نلمس عبقرية "مولييراس"، ونكتشف فهمه الصائب والعبقري لظاهرة التعريب. وهذا الفهم الفذّ هو الذي دفعني إلى كتابة هذا التعليق على نصه وملاحظاته. فهو يربط، عكس ما هو شائع عند التعريبيين، تسارع وتيرة التعريب ونجاحه ببلدان شمال إفريقيا بالاحتلال الأجنبي لهذه البلدان. فـ"مولييراس"، كما رأينا في النص، يعترف أن التعريب، كتحول للأمازيغيين من جنسهم الأمازيغي إلى الجنس العربي، كان شائعا بشمال إفريقيا لأسباب دينية منذ اعتناقهم للإسلام.

وإذا كان انتشاره يعرف تقدما لا يمكن إيقافه، إلا أن هذا التقدم كان بطيئا، شبّهه الكاتب بنشاط النمل الأبيض، للدلالة على المثابرة والبطء. لكن مع الاحتلال الفرنسي تسارعت وتيرة التعريب بشكل غير مسبوق، وانطلق «تعريب جميع الأمازيغ بخطى عملاقة». ويشرح ذلك "مولييراس" بقوله: لأن «الدولة المحتلة هي أول من سيشجع على هذا التحوّل، كما فعلنا نحن أنفسنا في الجزائر، وفي جهل تام منا لإتنوغرافيا وتاريخ الدول الأمازيغية». 

لماذا شجّعت فرنسا التعريب؟ ولماذا تسارع هذا الأخير بالجزائر، وبالمغرب بعد احتلاله كما تنبّأ بذلك "مولييراس"؟ لأن فرنسا، كدولة محتلة، لم تترك التعريب، أي التحول الجنسي للأمازيغيين إلى الجنس العربي، اختياريا وفرديا، تبعا لإغراءاته الدينية والسياسية والاجتماعية، كما كان الأمر دائما منذ انتشار الإسلام بشمال إفريقيا الأمازيغية، بل تدخلت لتجعل منه مشروعا وطنيا وجماعيا، يهم الجميع وليس البعض فقط، وإجباريا لا مكان فيه للاختيار الحر.

هذا الطابع الوطني الجماعي والإجباري الذي أضفته فرنسا على التعريب، يتجلى في تعريبها للدولة التي استعمرتها مثل الجزائر، أو "حمتها" مثل المغرب. وماذا يعني تعريب الدولة؟ يعني تعريب أركانها الثلاثة التي هي الأرض والشعب والحكم السياسي (السلطة). وبما أن تعريب الدولة يعني تحويلها إلى دولة عربية، فقد حوّل هذا التعريب، بالتالي، أرضها إلى أرض عربية، وشعبها إلى شعب عربي، وحكمها إلى حكم عربي.

والنتيجة أن من يعيش في كنف هذه الدولة، فهو محسوب من المنتمين إلى الشعب العربي لهذه الدولة العربية، شاء أم أبى. ومع تعريب الدولة، وما نتج عن ذلك من تعريب للأرض والشعب والحكم، يكون التعريب قد تقدم حقا بخطى عملاقة، كما لاحظ "مولييراس"، بل يكون قد بلغ غايته ومنتهاه، اللذيْن هما تعريب كل شيء. هذا التعريب لكل شيء هو ما سترثه دولة الاستقلال بالمغرب عن دولة الاحتلال. وهذا يبيّن، كما يشير إلى ذلك "مولييراس" من خلال ربطه لتسارع التعريب بالاحتلال الفرنسي، وكما شرحت ذلك في مقالات سابقة (انظر موضوع: "التعريب نجح بالفرنسية قبل العربية"، على رابط هسبريس: http://www.hespress.com/writers/279735.htm )، حيث وضّحت أن التعريب، في شكله الدولتي الوطني والجماعي والإجباري، سياسة فرنسية استعمارية، تواصل دولة الاستقلال نهجها وممارستها لأنها البنت الشرعية لدولة الحماية الفرنسية.

6 ـ أما الشيء الوحيد الذي لا اتفق فيه مع "مولييراس"، فهو إرجاعه تشجيع الاستعمار للتعريب إلى «جهل تام [ ] لإتنوغرافيا وتاريخ الدول الأمازيغية». وهذا غير صحيح، بل العكس هو الصواب: ففرنسا كانت على علم تام بتاريخ وجغرافية ولغات وهوية الشعوب المغاربية. بل لقد وظّفت في احتلالها لهذه البلدان ما تجمّع لديها من معلومات ومعطيات استكشافية واستخباراتية حول هذه البلدان.

وكتاب "مولييراس" نفسه، "المغرب المجهول"، والذي كتبه على شكل تقارير استخباراتية موجّهة إلى السلطات الفرنسية لتعتمد عليه في احتلالها للمغرب، كان، بلا شك، أحد المصادر التي اعتمدت عليها فرنسا في غزوها للمغرب. فرنسا كانت، إذن، على علم ويقين أن هذه البلدان ليست عربية، ولم يسبق لها أن كانت كذلك.

 فلماذا قامت بتعريبها، وتغيير جنسها الجماعي الأمازيغي إلى الجنس العربي؟ لأن فرنسا، بناء على ما توفر لديها من معطيات، اقتنعت أن العروبة أضمن من الأمازيغية لمصالحها الاستعمارية على المدى القريب، ولمصالحها الوطنية على المدى البعيد. ولهذا ساندت النخبة المغربية المتحوّلة جنسيا، أي التي كان قد سبق لها أن تنكّرت لجنسها الأمازيغي وتبنّت الجنس العربي، وأنشأت لها دولة عربية جديدة بالمغرب، ستسلّمها لها عند مغادرتها لهذا المغرب في 1956، والتي ستواصل السياسة التعريبية لفرنسا الاستعمارية.

وقد أكدت الأحداث أن فرنسا كانت على صواب في تعريبها للمغرب مراعاة لمصالحها، ذلك أن النخبة العروبية التي تسلمت من فرنسا الدولة العربية التي أنشأتها في 1912، هي التي لا تزال تحمي، وبعد ستين سنة من خروج فرنسا من أرض المغرب (نحن في أواخر 2016)، مصالح فرنسا الاقتصادية والثقافية واللغوية. ولا أدلّ على ذلك أن اللغة الفرنسية، ورغم ما عرفته من تراجع في إشعاعها العالمي ونقص في إنتاجها العلمي والمعرفي، لا تزال هي المهيمنة بالمغرب، وهي لغته الرسمية الحقيقية.