تاوكرات الشاعرة الامازيغية العمياء التي ألهبت حماس المقاومين الامازيغ ضد الاستعمار

لم تقتصر المقاومة الامازيغية ضد الاستعمار الفرنسي للمغرب، منذ توقيع معاهدة الحماية سنة 1912، على الرجال فقط؛ بل سجلت النساء حضورهن كذلك، ودافعن إلى جانب المقاومين الرافضين لسياسة الاستعمار، تارة بمجهودهن بتقديم الدعم والمؤونة للمقاومين وتارة أخرى بأشعارهن التي كانت مصدر حماس المقاومين وينبوع إلهامهم، لإبراز المزيد من عدم الخنوع والاستسلام. 

ومن ضمن هؤلاء النسوة اللائي خلدهن التاريخ الشعبي وتجاهلهن التاريخ الرسمي  ولم يُنفض عنهن غبار الإهمال، توجد الشاعرة الامازيغية العمياء تاوكرات أوت عيسى taougrat oult aissa. التي  أجّجت الحماس في نفوس المقاومين الامازيغ ضد الاستعمار بأشعارها المحلمية الحماسية القوية وأربكت سلطات الاستعمار الفرنسي حسب شهادة الضباط الفرنسين في مذكراتهم.

لمحة تاريخية عن الشاعرة الامازيغية العمياء تاوكرات اولت عيسى

تاوكرات taougrat

تاوكرات أولت عيسى هي شاعرة أمازيغية عاشت في النصف الأول من القرن العشرين، لم يُثنها عَماها ويُتمها، أيضا، عن التصدي ومناهضة الاستعمار الفرنسي وإرباكه بأشعارها المحلمية والحماسية التي كانت تنشدها وتؤجج الحماس في نفوس المقوامين الأمازيغ، باعتبارها جرعة قوية تساعد  المقاومين على المضي قدما في الكفاح المسلح الساعي إلى طرد المستعمر،  ورفضت كل الاغراءات في أن تباع أو تشترى أو تُستمال أو تُغوى أو يغرر بها، نظرا إلى إيمانها بعدالة قضية المغاربة عامة، والمجاهدين المرابطين في جبال الأطلس وسهولها خاصة؛ كل هذا جعل منها أيقونة زمانها، ولا أدل على ذلك من الوقار والهيبة اللذين كانت تحظى بهما من قِبل جميع من عاشروها وزامنوها وجايلوها، باعتبارها رمزا للنضال باستماتة وشجاعة منقطعتي النظير.

وللتأكيد على أهميتها ودورها إبان فترة الاستعمار، أصدر الباحث الفرنسي françois reyniers مؤلفا بالفرنسية عنونه بـ "Taougrat: Ou les Berbères racontés par eux-mêmes"، دون التمكن من الاطلاع على مضامينه لمعرفة هل هي عبارة عن تعريف منه بشجاعتها وبسالتها وقوة نظمها الشعر الهادف إلى درع المستعمر حينها، أم لحقده وكرهه لها بعد كل ما سببته للمستعمر من حيرة وارتباك. وقد أورد أيضا الاستاذ محمد شفيق العديد من أشعارها المحلمية في كتابه المعروف  المعنون بـ"من أجل مغارب مغاربية بالأولوية" مع لمحة عن حياتها.

وفي ظل ندرة، إن لم نقل غياب دراسات باللغة العربية تعنى بالشاعرة الامازيغية المنسية تاوكرات؛ استقت بعض المنابر الصحافية الوطنية إضاءات تخص الشاعرة العمياء من السيد حسن أوريد، مؤرخ المملكة سابقا والروائي المغربي، إلى جانب شهادة الحْسن زروال، بصفته أستاذا باحثا في الشعر الأمازيغي بالأطلسين المتوسط والكبير الشرقي.

وفي هذا السياق، قال السيد حسن أوريد للصحافة إن "تاوكرات تحمل نفسا ملحميا وتُذكر بدور النساء في تاريخ شمال إفريقيا في المقاومة. شعرها له طابع ملحمي من أجل استنهاض همم المقاومين وكان له تأثير على نفوسهم. فرغم أنها كانت عمياء؛ إلا أن هذه (العاهة) كانت تضفي عليها الكثير من الاحترام". 

وتابع الروائي نفسه: "كان شعرها يتسم بنوع من الحدة في أبيات تستنهض النساء؛ من قبيل "كْرْ أَيْطُو"، ما معناه 'انهضي أَيطو'، كما لو أنه لم يبقَ هناك رجال، وطبعا كانت ترفض الاستعمار، وتدعو الرجال إلى إبداء المزيد المقاومة، وترفض سياسة المستعمر وكانت متشبثة بالاسلام . ولا أدل على هذا من بيت شعر لها تقول فيه: 'أما الدين ن محمد أورتزريخ'، ما معناه 'ولكنني لن أتخلى عن دين محمد'. علاوة على أنها كانت تستهدف النساء وتعول عليهن لأن الرجال لم يكونوا في مستوى التحديات".

وبخصوص أسباب عدم إنصافها، أجاب صاحب مؤلف "رَوَاء مكة": "ليست الوحيدة التي لم تنصف؛ لم ينصف قط هذا الشعر للأسف. إن الاهتمام بهذا النوع من الشعر محصور، ويكاد يكون منعدما. ولو لم يدون الباحث الفرنسي François Reyniers شعر تاوكرات لكان قد ضاع".

واستطرد كاتب 'سيرة حمار' قائلا: "لقد ترجمتُ بعض أشعار الشاعرة العمياء إلى الفرنسية في البحث الذي أنجزته في سلك الدكتوراه، زد على هذا أن هناك أيضا الترجمة الجميلة التي قام بها محمد شفيق في منشورات الأكاديمية في كتاب 'من أجل مغارب مغاربية بالأولوية'، الذي نشره مركز طارق بن زياد، ويتضمن المحاضرة التي ألقاها في الأكاديمية حول شعر المقاومة بالأطلس أساسا".

من جانبه، قدم الحسن زروال إضاءته باستفاضة جاء فيها: "إن الأشعار التي تطرقت لـ معركة تازيزاوت، مثلا، تختزن معلومات نادرة لا نقف عليها في الإسطوغرافيا الغربية، ولا في الكتابات الوطنية التي لم تنصف مطلقا تاريخ المقاومة المسلحة والبوادي المغربية. ولهذا، نجد داخل هذه المتون الشعرية، التي لا يزال بعضها متداولا، ما يمكن أن نسميه بالتاريخ الحي أو التاريخ من الداخل؛ لأن نظم هذه الأشعار كان تحت وابل القذائف ورصاص المدفعية الفرنسية، وكان الشعراء مقاومين ومساهمين مباشرين في المعارك التحررية".

إن الشاعرة تاوكرات أوت عيسى، التي عاشت جزءا من حياتها بأغبالا وهاجرت بعد احتلاله من قبل الفرنسيين إلى تونفيت، كانت أشعارها "تنطوي على الكثير من المعلومات التي من شأنها أن تضيء العتمة التي ما زالت تلقي بظلالها على جوانب كثيرة من تاريخ المقاومة المسلحة بالأطلس المتوسط والكبير الشرقي، أي في المعارك التي دارت أطوارها في بلاد إشقيرن وأيت سخمان وأيت يحي والنواحي"، يتابع الباحث عينه في تصريحه للصحافة.

وزاد المصدر نفسه أنه "من الغريب أن يبقى شعر هذه الشاعرة والمقاومة والفيلسوفة، التي كانت تعاني من العمى، بعيدا عن التناول القرائي والنقدي؛ إما بالبحث عن قيمه الجمالية والفنية، وإما بالبحث عما يختزنه من معطيات تاريخية وسياسية واجتماعية، مع العلم أن الباحث الفرنسي François Reyniers قد جمع الكثير من أشعارها".

ولن يتحقق هذا، حسب شهادة زروال، "إلا بتدشين ورش علمي كبير يقوم على تحرير البحث العلمي عامة، والتاريخي خاصة، من القيود والأغلال التي ما زالت تقف أمام المصالحة الحقيقية للإنسان المغربي مع تاريخه، عبر منح الباحثين الحرية والإمكانات اللازمة، وتأهيلهم للتعامل مع الوثائق والشواهد الرمزية والفنية وغيرها، التي لم تعد حكرا على الأدباء والشعراء، بل ملكا مشاعا للتقصي والبحث والاستنطاق من قبل عالم التاريخ والأنثروبولوجيا والاجتماع".

وختم الباحث ذاته حديثه بالقول إن "الشاعرة توكرات أوت عيسى كانت لتكون نسيا منسيا لولا الباحث الفرنسي François Reyniers، ولولا الذاكرة الجماعية التي استبقت وحافظت على نزر قليل من أشعارها. لقد كانت يتيمة الأب وكانت ضريرة، ولم يمنعها اليتم والإعاقة من أن تكون مغنية كبيرة وشاعرة عظيمة ترتاد أحيدوس ومجالس الشعر، حتى حظيت باحترام وتقدير وتوقير أهلها وجميع سكان أغبالا والقبائل المجاورة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، لتستشهد في معركة تازيزاوت".