أحمد عصيد يرثي فقيد الأمازيعية محمد منيب محطم اسطورة الظهير البربري

بقلم : أحمد عصيد .

الناس عابرون، والزمن يرسم آثاره على الأجساد والنفوس قبل أن تتلاشى، لكن عبور الناس في الزمن والتاريخ لا يعني النهاية، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يترك أثرا خالدا، بحكم اشتغاله بالرمزي، وإعادة تشكيله لذاته ومحيطه.

غادرنا محمد منيب تاركا أثارا قوية وعميقة في نفوس الكثيرين وأذهانهم، لقد علم جيلا بكامله بأن الماضي القريب أو البعيد لا يمكن أن نتملكه إلا بمعرفته الدقيقة، ولا يمكن تحقيق تلك المعرفة إلا بالبحث والتنقيب في الوثائق الأكثر ندرة والأقل شيوعا، والتي تخفي الوجه الآخر من الأشياء.




كانت الفكرة المؤرقة لمحمد منيب منذ عقود طويلة هي تصحيح التاريخ الوطني الحديث، وخاصة الذي ارتبط بفترة الحماية، هذا التاريخ الذي تم تنميطه على أساس إيديولوجيا حزبية قامت بانتقاء ماكر لعناصر بعينها، وتغييب الكثير من المعطيات والوقائع والوثائق خلف ستار سميك ظلت تحرسه الدولة الوطنية المركزية لعقود، ونجم عن هذا المونتاج الإيديولوجي سياسة الميز التي اعتمدتها الدولة ضدّ الأمازيغ والأمازيغية على مدى نصف قرن قبل أن تبدأ المصالحة المتعثرة سنة 2001، ثم الترسيم الموقوف التنفيذ سنة 2011.

ولد محمد منيب في 9 أكتوبر 1934 بأكادير، وكبر وعاش في هذه المدينة التي واكب أمجادها وعانق أوجاعها ومحنها على مدى 83 سنة، التحق موظفا بالبلدية وهو في سن السادسة عشرة من عمره سنة 1948، وساهم في إعالة أسرته رغم إمكانياته المحدودة، ثم بفضل احتكاكه بالأرشيف الاستعماري لمرحلة الحماية، وعمله بالإدارة إلى حين تقاعده استطاع في وقت مبكر أن يضع يده على مكامن الخطأ في الكثير من الخطابات السائدة عن تلك الفترة من تاريخ المغرب.

في سنة 2002 أصدر محمد منيب كتابه “الظهير البربري أكبر أكذوبة سياسية في المغرب المعاصر”، وهو الكتاب الذي أحدث خضّة حقيقية في الساحة الثقافية والسياسية بما تضمنه من معطيات لا يعرفها الكثير من المغاربة، والتي تظهر خفايا السياق التاريخي لتوقيع وثيقة الظهير المذكور ولنشأة الحركة الوطنية المغربية.

في سنة 2004، أنشأ محمد منيب بمبادرة منه حركة “تيضاف” أي “اليقظة”، التي كانت مهمتها مراقبة محتويات الكتب المدرسية التي تتضمن تحريفا لتاريخ المغرب بسبب تغليب روايات غير علمية ومحض إيديولوجية ولا أساس لها في الوثائق والمعطيات الفعلية.

وقد أقدمت حركة “تيضاف” في نفس السنة على رفع دعوى قضائية ضدّ وزارة التربية الوطنية بسبب ما ورد في درس حول المقاومة المغربية ونشأة الحركة الوطنية من فبركة وتدليس بعيدين عن النهج العلمي والاختيار البيداغوجي السليم.

وقد قدم محمد منيب للترافع في هذه القضية ما يزيد على 120 صفحة من المعطيات والوثائق التي تفند الرواية الرسمية عما سمي بـ”الظهير البربري” الواردة في الكتب المدرسية.

وتم نشر هذه المرافعة في كتاب يحمل عنوان “الظهير البربري في الكتاب المدرسي” صدر سنة 2010، ويتضمن هوامش ونصوصا غنية تكشف الكثير من الأبعاد المغيبة في الرواية الرسمية ـ الحزبية لبداية المرحلة الكولونيالية.

وبسبب هذا الضغط المدني الفعال وغير المسبوق الذي قاده السيد محمد منيب بصبر وأناة، تغيرت الكثير من المضامين الدراسية المفبركة واختفت من الجرائد الحزبية عبارة الـ”الظهير البربري” وكذا الرواية التي كان يعاد نشرها في 16 ماي من كل سنة، خاصة في جرائد “العلم” وL’opinion وLe Matin.

أما إسهام محمد منيب في شحذ الوعي التاريخي الأمازيغي فقد كان من خلال قيامه بالمهام التالية التي كانت تنقص النقاش العمومي:

ـ الكشف عن خطأ التلفيق في تسمية “الظهير البربري”، حيث أبرز منيب عدم وجود وثيقة تحمل هذا الإسم، مذكرا بالإسم الحقيقي الذي هو “الظهير المنظم للشؤون العدلية في المناطق ذات العوائد البربرية”، وهي تسمية تغير الكثير بالطبع، وتختلف عن تلك التي وضعها رواد الحركة الوطنية وروجوها في الصحافة والبيانات منذ بداية الثلاثينات.

ـ التمييز بين النص الأصلي للظهير وبين تأويلاته السياسية، حيث روج الوطنيون بأن الظهير يهدف إلى “التفرقة بين العرب والبربر” في المغرب كما يرمي إلى “تنصير البربر”، بينما كشف السيد منيب بأن الظهير لم يوضع على أساس إثني أو عرقي بل من منطلق ترابي كان موجودا قبل مجيء الحماية بكثير، وهو الذي تم التمييز بموجبه بين المناطق التي تعتمد الأعراف الأمازيغية والمناطق التي تخضع للمحاكم الشرعية المخزنية في المدن وما جاورها، وهي وضعية لم يصنعها الفرنسيون بل وُجدت منذ قرون طويلة، وطالبت القبائل بترسيمها.

ـ أما موضوع “تنصير البربر” فقد كشف السيد منيب عن أنه كذبة مكشوفة لجأ إليها الوطنيون ـ كما شهد بذلك فيما بعد الراحل أبو بكر القادري نفسه في حواره مع جريدة الأحداث المغربية سنة 2000ـ بهدف تحريك العامة، بينما يخلو نص الظهير كليا من أي موضوع له صلة بالدين، حيث كان الظهير يحدد مهام المحاكم العرفية الأمازيغة ولا يدخل في موضوع المعتقد إطلاقا.

كما كشف السيد منيب على أن البعثات التبشيرية وُجدت بالمغرب منذ الخمسينيات من القرن التاسع عشر ولا علاقة لها بالظهير الذي لم ينصّ عليها ولم يُشر إليها لا من قريب ولا من بعيد.

ـ كشف السيد منيب بالوثائق كذلك على أن إقرار محاكم عرفية أمازيغية كان تقليدا متبعا من طرف السلاطين المغاربة السابقين على فترة الحماية بقرون، والذين كانوا يقرون هذه المناطق على أعرافها التي كانت في كثير منها لا تعتمد الأحكام الشرعية الإسلامية بقدر ما كانت تحكم بالغرامات دون العقوبات الجسدية.

كما كشف عن معطى أساسي تم تغييبه من المدرسة والسكوت عنه في الصحافة الحزبية، وهو أن إقرار المحاكم العرفية الأمازيغية كان بطلب من القبائل المقاومة التي كانت تطالب خلال المفاوضات من أجل وضع السلاح والقبول بـ “التهدئة” عدم إلحاقها بالقضاء الشرعي المخزني الذي كانت القبائل تعتبره مصدر ظلم كبير. وهو ما وافق عليه السلطان مولاي يوسف بتوقيعه على النسخة الأولى من الظهير في بداية فترة الحماية.

ـ لقد أسهم عمل السيد منيب بجانب ما ذكرناه في إنهاء احتكار جزء من تاريخنا من طرف بعض النخب الحزبية التي نصبت نفسها وصية عليه، تمتلك لوحدها الرواية الرسمية وتحرسها بكثير من الإصرار والعنف اللفظي أحيانا. كما ساهم في إنهاء سنوات الرصاص الأمازيغية التي كانت تجعل من شبهة العودة إلى “الظهير البربري” سيفا مسلطا على رقاب الأمازيغ كلما طالبوا بحقوقهم اللغوية والثقافية.

بجانب هذا كله كان محمد منيب حاضرا في كل المحطات الكبرى للنضال الأمازيغي بالمغرب، سواء على الصعيد الوطني أو الدولي، وكان بيته ملتقى للمناضلين من مختلف المشارب والتوجهات ومن مختلف بلدان المغارب والدياسبورا، كان كريما إلى أبعد الحدود، وحكيما إلى أبعد الحدود، يعطي رأيه في تواضع وهدوه يدفعان دفعا إلى التفكير وإعادة النظر في كثير من البديهيات الرائجة، حتى لدى الحركة الأمازيغية نفسها.

ولم يكن محمد منيب مساهما بأفكاره فقط، بل بماله أيضا، حيث كان يدعم بدون تردّد كل تظاهرة أو منشور أو مبادرة تنظيمية ـ جمعوية أو طلابية ـ هادفة إلى إعادة الاعتبار للأمازيغية هوية ولغة وثقافة.

ولأن محمد منيب لم يكن شخصا عاديا بمدينة أكادير، بل كان من صناع مشهدها الثقافي ـ الفكري والسياسي، فإن إطلاق إسمه على إحدى الفضاءات بالمدينة أمر ضروري ينبغي أن يعمل على تحقيقه المنتخبون ونشطاء الحركة المدنية.
تعازينا في رحيل الفقيد، لعائلته الصغيرة والكبيرة.