عن الأمازيغية في المؤسسات والاستيلاب اللغوي - ميمون أمسبريذ

الكاتب: ميمون أمسبريذ
12/01/2022 

عادت “المسألة الأمازيغية” في الآونة الأخيرة إلى التداول الإعلامي بأنواعه، عقب شروع الحكومة الجديدة والهيئات المنتخبة في ممارسة مهامها الدستورية.

إن المتتبع لمسار الأمازيغية في شقها اللغوي يلاحظ بدون عناء أنها لا تزال تراوح مكانها منذ 1994 على الأقل (تاريخ إدراج “نشرة اللهجات” في التلفزيون العمومي). فعلى مدى ربع قرن، ورغم ما حققته الأمازيغية من اختراقات على الأصعدة الرمزية والدستورية والقانونية، وبدرجة أقل، الإجرائية، لا تزال “النخب” بمختلف مقاماتها وانتماءاتها وحقول تدخلها تحكمها، عن وعي أو غير وعي، رؤية استعلائية نحو الأمازيغية، غرسها قرنٌ من التعريب والتغريب في المِخيال الثقافي واللغوي للأجيال المتعاقبة من المغاربة. إذْ ما إن ننزل من سماء الخطب والشعارات إلى أرض الواقع العملي، واقع المؤسسات: من هيئات منتخَبة ومرافق عمومية كالتعليم والإدارة والقضاء… حتى تقفز إلى السطح أعراض اللاوعي الثقافي-اللغوي المغروس ذاك في شكل مواقف فردية وسلوكيات مؤسَّساتية.

 وكلاهما يتسبب في عرقلة حَراك التطبيع مع الأمازيغية بإفراغ المكتسبات المتَضَمَّنة في الخطب الملكية والوثيقة الدستورية (في انتظار تعديل دستوري يساوي بين اللغتين الرسميتين للدولة، من دون تمييز تراتبي كما هو الشأن في الدستور الحالي)، بل وحتى في “القانون التنظيمي” الذي صيغَ على ما يبدو لمرافقة الأمازيغية في المرحلة الأخيرة لاحتضارها.

اللغة الامازيغية المغرب
لايزال الاعتراف بالأمازيغية في المغرب مجرد حبر على ورق

وإذا ذكرت المخيال واللاوعي اللغويين اللذين يحكمان موقف “النخب” من الأمازيغية فذلك لأن هذا الموقف أشبه ما يكون بما رصده التحليل النفسي من تجليات لمخزون اللاوعي على صعيد السلوك حتى في صوره الأكثر عقلانية. في الظاهر. هكذا نجد أفراد هذه “النخب” يتعللون باعتبارات عقلانية، منها ما هو لِسْني (تعدد لهجات الأمازيغية)، ومنها ما هو تقني لوجستيكي، ومنها ما هو مالي موازًنَتي… وما هي في الحقيقة إلا تَعِلاّت (alibis) يصرفون عبرها مكبوت اللاوعي الثقافي-اللغوي المذكور. ذلك بأنه فيما يتذرعون بتلك الذرائع ويتعللون بتلك “العلل” لا يفعلون شيئا لتجاوزها؛ بل ويعملون على إدامتها بحيث يستطيعون أن يستمروا في منع الأمازيغية من الوجود المؤسساتي لِأسباب “موضوعية”.

وذكرت اللاوعي اللغوي أيضا (بالمعنى المقصود هنا) لِأن الناظر إلى إشكالية إدماج الأمازيغية في المؤسسات لا يصعب عليه أن يلاحظ أن الأمر يتعلق، في جزء كبير منه، بإشكالية أمازيغية – أمازيغية. وأسطع دليل على ذلك تلك المُناكَفَةُ التي وقعت أخيرا في البرلمان بين وزير العدل الأمازيغي (السوسي) ورئيس الفريق الحركي، الأمازيغي أيضا، عَقِبَ رفض الأول الإجابة بالأمازيغية عن سؤال بنفس اللغة طرحته عليه نائبة من الفريق ذاته، متعلِّلا بعدم إمكانية التواصل بين السائلة والمجيب. 

هذا رغم أن سؤال النائبة صِيغَ بكلمات من المعجم الأمازيغي المشترك الذي في مستطاع أي ناطق بالأمازيغية فهمه أيّا كانت لهجته؛ ورغم أن الوزير كان قد توصل -حسب المعمول به- بالنسخة العربية للسؤال. فما امتناع الوزير الناطق بالأمازيغية عن الإجابة بالأمازيغية عن سؤال مطروح بالأمازيغية إلا تأكيد لما شرحناه أعلاه من كون السلوكيات اللغوية المؤسساتية تفضح اللاوعي الثقافي – اللغوي للنخب: ذلك اللاوعي القائم على أن الأمازيغية، بطبيعتها، لا يمكن أن تكون أداة تواصل مؤسساتي مهما كان نوعه. (وهو نفس اللاوعي الذي يجعل اللغتين العربية والفرنسية تحتكران هذا الدور رغم أن كثيرا من أطراف ذلك “التواصل” لا يتقنهما لا إرسالا ولا استقبالا، كما تدل على ذلك “المشاهدُ اللغوية” التي صارت مادة دسمة للضحك والإضحاك في وسائط التواصل الاجتماعي. 

فالواقع أن هاتين اللغتين لم تخضعا أبدا لتقييم مبني على النجاعة التواصلية، وإنما عُهد إليهما بالنهوض -في السياق المغربي- بوظيفة طقوسية (rituelle)، مؤداها: الإيحاء بالمسافة المؤسَّسية، بمعنى إشعار الجمهور المفترض بأنه إزاء تلفظ من نوع خاص: تلفظ مؤسَّسِي. ولْيَذْهبِ التواصل إلى الجحيم! وَلْيَسُدِ المونولوغ المؤسسي!).

لقد تمكن اللاوعي اللغوي المصنوع، القائم على القبول بالاستلاب الثقافي-اللغوي شرطا للانتساب إلى التشكيلة السوسيو-ثقافية المنبثقة عن سياسة التعريب والتغريب من “النخب” الناطقة بالأمازيغية تمكنا يجعل منها عامل مقاومة لِإدراجها الفعلي في المؤسسات؛ وبذلك ترفع الحرج عن المعادين التقليديين للأمازيغية.

ويتخذ موقف “النخب” الناطقة بالأمازيغية من لغتها شكلا كاريكاتوريا عندما يتعلق الأمر بمنتَخبين جماعيين يسيرون جماعات قروية وشبه قروية (رغم تصنيفها ضمن الحواضر)، تقع في عمق المناطق الأمازيغية أحادية اللغة، والتي لم ينلها من التعريب إلا ما كان عن طريق المدرسة. حيث نجد هؤلاء المنتخبين يجهدون أنفسهم في النطق برطانة تثير السخرية والشفقة معا، لا هي بالعربية ولا الأمازيغية، بحكم عدم إتقانهم للأولى وإصرارهم مع ذلك على “التواصل” بها، وهم يتداولون في الشؤون المحلية لسكان جماعاتهم الناطقين بالأمازيغية دون سواها، ومنهم حاضرون في الجلسات! فماذا يمنع هؤلاء المنتخبين من التواصل بلغتهم الأمازيغية التي يتكلمونها سَهْلاً رَهْوًا قبل وبعد الجلسات؟ ألا يتعلق الأمر “بعقدة الأمازيغية” المستحكمة عند كثير من الناطقين بها من المشتغلين بالشأن العام؟ عقدة تجد أصلها في اللاوعي الثقافي – اللغوي الذي ركّبه في ذوات المغاربة قرن من التعريب والتغريب.

يذكرني السلوك اللغوي لهؤلاء المنتخبين وغيرهم من المسؤولين الناطقين بالأمازيغية بما درج عليه أحد أقاربي من المهاجرين الأوائل إلى أوروبا: فقد كان يرسل أشرطة مسجَّلة إلى أسرته الأمازيغية في الريف، يُجْهِد فيها نفسه بالتكلم بـ”عربية” مضحكة بسبب جهله شبه التام بها؛ وذلك اعتقادا منه أن الأمازيغية غير قابلة للتسجيل في شريط؛ وأنه لا بد له من العربية إذا أراد أن “يتواصل” مع أهله في البلاد؛ هؤلاء الأهل الذين -يا لها من مفارقة مبكية مضحكة- لا يفهمون منها شيئا!

ولا يَبْعُد عن هذا السلوك اللغوي الغريب سلوكُ كثير ممن يُدْعَوْن إلى الحديث في الإذاعة والتلفزيون “الناطقين بالأمازيغية” من المثقفين والمتعلمين المشتغلين في مختلف القطاعات ذات الصلة بحياة المواطنين. فما إنْ يُقَدَّم لهم الميكروفون حتى تذهب عنهم أمازيغيتهم ولا يبقى منها غير خروف الجر والإضافة!

عودةً إلى السلوك اللغوي للمنتخبين والمسؤولين الناطقين بالأمازيغية، المتمثل في القبول بالاستلاب اللغوي السعيد الذي يترتب عنه تأجيل إدماج الأمازيغية في المؤسسات، يجب الاعتراف بأن الحركة الأمازيغية مسؤولة إلى حد بعيد عن هذا الوضع (لكن المسؤولية الأولى والأخيرة تقع على كاهل الدولة المغربية التي ارتضت الاستلاب الثقافي – اللغوي عقيدةً، مضحيةً بذلك بهويتها وأصالتها في سبيل عروبة إيديولوجية لا سند لها لا من التاريخ ولا من الجغرافيا ولا من الإناسة). أما مسؤولية الحركة فتكمن في أنها اكتفت، خلال عقود، بالعمل الثقافي الذي، رغم ضرورته، يظل ذا طبيعة نخبوية مهما اتسعت قاعدة المستهدفين به. 

هذا، فيما كان عليها أن تجمع بين العمل الثقافي والعمل السياسي. فهذا الأخير هو القمين بجعلها تقتحم المؤسسات بجميع مستوياتها ومجالات اشتغالها: التشريعية والتنفيذية والتمثيلية والتدبيرية. إن عزوف الحركة الأمازيغية عن خوض غمار السياسة بمعناها النبيل (تدبير شؤون المدينة) هو الذي أبقى تلك المؤسسات بأيدي المعادين للأمازيغية والمستلبين السعداء من الناطقين بها من النوع المذكور.

والعمل السياسي بالمعنى المشار إليه يبدأ بالانخراط في العمل الاجتماعي بجميع مجالاته؛ لِما يتيحه من احتكاك بالمواطنين وتَعَرُّف على انشغالاتهم واحتياجاتهم، مع القيام بالمبادرات الملائمة لسد ثغرات العمل المؤسسي قدر الإمكان، أو الترافع عنهم لدى السلطات المعنية… كل ذلك مع ممارسة التواصل بالأمازيغية حَذْفا للمسافة اللغوية المعرقلة للتماهي بين المرسِل والمُتلَقِّي، من جهة، ومعالَجَةً عملية تطبيقيةً لعقدة اللغة لدى الناطقين بالأمازيغية، من جهة ثانية، ورفعًا للشبهات التي يروِّجها المغرضون المعادون للأمازيغية من متأسلمين وقوميين متياسِرين عن الحركة الأمازيغية: طبيعتها وأهدافها…

لا شيء يمنع الفاعل الاجتماعي، وقد اكتسب الشرعية الاجتماعية من خلال الممارسة الميدانية، من أن يترجم التزامه الاجتماعي إلى التزام سياسي عبر التقدم إلى مختلف الاستحقاقات الانتخابية طلبا لتمثيل مواطنيه. وباقتحامه المؤسسات التشريعية والتنفيذية والتدبيرية سيستطيع الفاعل السياسي القادم من الحركة الأمازيغية أن يساهم في تحويل هذه المؤسسات التي تعرقل حَراك إدماج الأمازيغية في الحياة العامة إلى عوامل وأدوات لتسريع ذلك الحراك. أما إذا ظلت الحركة الأمازيغية منكفئة على العمل الثقافي الموسمي والنخبوي، محتقرة العمل السياسي فسنستمر في إرسال المعادين للأمازيغية والمستلبين السعداء من الناطقين بها إلى تلك المؤسسات؛ وسنظل نشاهد بإحباط تلك المشاهد المضحكة المبكية التي يحتقر فيها الأمازيغيون أنفسهم بكل افتخار.

ذلك، ولا يهم الإطار السياسي الذي يعمل من داخله الفاعل الأمازيغي: إذ الأهم هي القناعة الشخصية التي من شأنها أن تخلق تكتلات تعمل لصالح الأمازيغية أو، على الأقل، تتصدى لإرادة عرقلة إدماجها في المرفق العمومي بذرائع هي في الواقع تَعِلاّتٌ، ليس إلاّ.

لقد عرفت الحركة الأمازيغية فعلا تململا في هذا الاتجاه خلال مرحلة ما قبل الانتخابات التشريعية والجماعية الأخيرة. ومن السابق لأوانه القيام بتقييم شامل للمشاركة في العمل السياسي من داخل الأحزاب القائمة. وذلك لسببين، أحدهما: قلة عدد الملتحقين بها من الفاعلين القادمين من الحركة الأمازيغية؛ والآخرُ: قِصَرُ المدة الزمنية للممارسة. 

غير أن هذا الاحتراز لا يمنع من تسجيل حقيقة أن العلامات الصادرة عن المؤسسات المنتَخَبَة أخيرا لا تدعو إلى التفاؤل. لكن الاستسلام لليأس والإحباط مع البكاء على أطلال الأمازيغية ليس حَلا على أي حال. بل الحل هو مزيد من العمل الاجتماعي المترجَم سياسيا، وصولا إلى اقتحام قلاع عرقلة الأمازيغية بالتسويف والمماطلة وإفراغ المكتسبات من مضامينها العملية.

وللمستَلبين السعداء من الناطقين بالأمازيغية يقال: اخجلوا من أنفسكم!